فصل: العامل السابع: العلم بأن القرآن هو أصل الدين ومنبع الصراط المستقيم:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المدخل لدراسة القرآن الكريم



.التفرغ للقرآن بعد عصر الصحابة:

ثم تفرغ لحفظ القرآن، وإقرائه كثير من التابعين بالأمصار الإسلامية فمنهم من كان بالمدينة: سعيد بن المسيب، وعروة بن الزبير، وسالم بن عبد الله بن عمر، وعمر بن عبد العزيز، وسليمان، وعطاء بن يسار، ومعاذ بن الحارث المعروف بمعاذ القارئ، وعبد الرحمن بن هرمز المشهور بالأعرج، ومحمد بن مسلم بن شهاب الزهري القرشي عالم الحجاز والشام، وجندب بن مسلم، وزيد بن أسلم.
وكان بمكة: عبيد بن عمير، وعطاء بن أبي رباح، وطاوس بن كيسان اليماني ومجاهد بن جبر، وعكرمة مولى ابن عباس، وابن أبي مليكة.
وكان بالكوفة: علقمة، والأسود، ومسروق بن الأجدع، وعبيدة بن عمرو السلماني وعمرو بن شرحبيل والحارث بن قيس، والربيع بن خثيم وعمرو ابن ميمون وأبو عبد الرحمن السلمي، وزر بن حبيش، وعبيد بن فضيلة، وسعيد بن جبير وإبراهيم النخعي، والشعبي.
وبالبصرة: أبو العالية، وأبو رجاء، ونصر بن عاصم، ويحيى بن يعمر والحسن البصري، ومحمد بن سيرين، وقتادة بن دعامة السدوسي.
وبالشام: المغيرة بن أبي شهاب المخزومي صاحب عثمان، وخليفة بن سعد صاحب أبي الدرداء.
ثم تجرد أقوام لحفظ القرآن، وضبط قراءاته، وعنوا بذلك أتم عناية حتى صاروا أئمة في القرآن، والقراءة، يقتدى بهم، ويرحل إليهم.
فكان بالمدينة: أبو جعفر يزيد بن القعقاع، ثم شيبة بن نصاح، ثم نافع ابن أبي نعيم.
وبمكة: عبد الله بن كثير، وحميد بن قيس الأعرج، ومحمد بن أبي محيص.
وبالكوفة يحيى بن وثاب وعاصم بن أبي النجود، وسليمان بن مهران المعروف بالأعمش، ثم حمزة، ثم الكسائي.
وبالبصرة: عبد الله بن أبي إسحاق، وعيسى بن عمر، وأبو عمر بن العلاء وعاصم الجحدري، ثم يعقوب الحضرمي.
وبالشام: عبد الله بن عامر، وعطية بن قيس الكلابي، وإسماعيل بن عبد الله بن المهاجر، ثم يحيى بن الحارث الذماري، ثم شريح بن يزيد الحضرمي.

.الأئمة القراء السبعة:

واشتهر من هؤلاء في الآفاق الأئمة السبعة:
1- نافع: قد أخذ عن سبعين من التابعين منهم: أبو جعفر، وابن كثير، وأخذ عن عبد الله بن السائب الصحابي.
2- وابن عامر: وأخذ عن أبي الدرداء الصحابي الجليل، وأصحاب عثمان رضي الله عنه.
3- وعاصم: وأخذ عن كثير من التابعين.
4- وحمزة: وأخذ عن عاصم، والأعمش، والسبيعي، ومنصور بن المعتمر، وغيرهم.
5- والكسائي: وأخذ عن حمزة، وأبي بكر بن عياش.
ثم انتشرت القراءات في الأمصار، وكثر القراء كثرة تجاوزت الحصر وصار حفاظ القرآن، المتقنون له، المتفرغون لإقرائه في الأقطار الإسلامية يعدون بألوف الألوف فلله الحمد والمنة على ما أنعم به، وعلى توفيق الأمة الإسلامية لحفظ كتابه.
العامل السادس اشتهار العرب بقوة الحافظة، وسيلان الأذهان، وصفاء الفطرة:
لقد كان العرب تغلب عليهم البداوة والأمية، فكان من الطبعي أن يكون معتمدهم في حفظ أنسابهم، وأشعارهم، وخطبهم، ومفاخرهم، ومفاخر آبائهم، وأجدادهم، وكل ما يتصل بهم على حوافظهم، وذاكراتهم فقد كانوا يعنون غاية العناية بالأنساب، والأحساب، والأشعار، والخطب ومن اعتز بشيء فلابد أن يسجله، ويقيده، ولما كانوا أمة أمية فقد قامت الحافظة والذاكرة مقام التسجيل بالكتابة فمن ثم كان من خصائصهم التي فاقوا بها كل الشعوب المعاصرة لهم قوة الحافظة، وسيلان الأذهان، وقد كان الواحد منهم كـ الشريط المسجل الذي لا يضل، ولا ينسى، وكان منهم من يحفظ أنساب قبيلته، وأشعارها، ومفاخرها: ومنهم من كان يحفظ أنساب القبائل كلها، وأشعار العرب وخطبهم، ومفاخرهم، ومثالبهم، وقد اشتملت كتب التواريخ والأدب على أمثال عجيبة في هذا.
وقد أعانهم على هذا ذكاء العقول، وصفاء النفوس، وسلامة الفطرة وقلة شواغل الحياة وتكاليفها، ولا يزال أهل البوادي والقرى إلى وقتنا هذا جل اعتمادهم على حوافظهم، وذاكراتهم تجلس للواحد منهم وهو أمي فيقص عليك من قصص الماضين من لقيهم، ومن لم يلقهم، الكثير من الأخبار، بل قد وجدنا من أهل القرى عندنا في مصر من يعرف تاريخ كل أسرة وعدد أفرادها، ومن مات منها، ومن بقي، وقد يذكر لك حكاية عن كل من تذكره له، وعمن غبر، وعمن لا يزال حيا، ومع هذا فهو أمي؛ لا يقرأ ولا يكتب، وما من أحد منا إلا وقد جلس إلى جده وجداته وسمع منهن الكثير مما حفظوا ووعوا فما أثر عن العرب ليس بالأمر المستغرب في تاريخ البشر.
وقد كان وجود هذه الخصائص العقلية والذهنية والنفسية عند العرب قبل الإسلام من المقدمات بين يدي النبوة المحمدية؛ لأن الله تبارك وتعالى يعلم أنه سيكلف هذه الأمة المحمدية بحفظ كتاب ربها، وسنة نبيها وأنهم هم أول من يقومون بحمل هذا الدين، ونشر رسالته، وتلقي الوحي قرآنا، أو سنة من النبي صلى الله عليه وسلم، وأنهم من الذين سيضطلعون بهذا العبء حين يبلغونه إلى الناس كافة، والعرب هم حملة هذا الكتاب الكريم وهم الذين بلغوه إلى كل أبيض وأسود حتى صار الإسلام مقترنا بهم، وصدق المبلغ عن رب العالمين حين قال: «إذا ذلّ العرب، ذل الإسلام» رواه أبو يعلى. والله أعلم حيث يجعل رسالته.

.العامل السابع: العلم بأن القرآن هو أصل الدين ومنبع الصراط المستقيم:

القرآن هو أصل الدين، ومنبع الصراط المستقيم وهو الأصل الأول من أصول التشريع في الإسلام، الذي يرجع إليه في الأحكام، ومعرفة الحلال من الحرام، وهو دستور المسلمين الأكبر، إليه يرجعون في الحكم والسياسة، والولاية، والإدارة، والاقتصاديات، والأخلاقيات، والأحلاف، والمعاهدات والمصالحات، والمهادنات ومعرفة حقوق الإنسان، وعلاقات الأفراد، والجماعات، فالقرآن هو الذي يضع الخطوط العريضة والقواعد الدقيقة، والأصول الأصيلة لكل ذلك، وإنه ليحسن في هذا المقام أن نذكر بالحديث الجامع في وصف القرآن الذي سقته في صدر الكتاب، روى الترمذي في سننه عن الحارث الأعور قال:
مررت في المسجد، فإذا الناس يخوضون في الأحاديث، فقلت: يا أمير المؤمنين، ألا ترى الناس قد خاضوا في الأحاديث! قال: أو قد فعلوها قلت: نعم، قال: أما إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ألا إنها ستكون فتنة» فقلت: ما المخرج منها يا رسول الله قال: «كتاب الله فيه نبأ من قبلكم، وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم، وهو الفصل ليس بالهزل من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله، وهو حبل الله المتين، وهو الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، هو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسنة، ولا يشبع منه العلماء، ولا يخلق على كثرة الرد»- وفي رواية عنه- «ولا تنقضي عجائبه، وهو الذي لم تنته الجن إذا سمعته حتى قالوا: {إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ}، من قال به صدق، ومن عمل به أجر، ومن حكم به عدل، ومن دعا إليه هدي إلى صراط المستقيم» خذها إليك يا أعور. قال الترمذي: حديث غريب وإسناده مجهول، وفي حديث الحارث: مقال: إن كتابا هذا بعض شأنه لابد أن يحفظه المسلمون، وأن يتنافسوا فيه: {وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ}.
إننا نجد في القديم والحديث أصحاب الدساتير، وأصحاب القوانين يعنون غاية العناية بدساتيرهم، وأصول قوانينهم، ويضعون لها التفاسير، والشروح فما بالك بالقرآن، وهو دستور الدساتير، والقانون الذي لا يدانيه قانون، والتشريع الذي لا يساميه تشريع وصدق الحكيم العليم: {وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ * لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} ومن ذا الذي يسمع من نبيه الأكرم هذا الحديث- وأمثاله كثير- ثم لا يحفظه عن ظهر قلب، ولا يفني عمره فيه؛ إن هذا الكتاب العظيم أحق ما يفنى فيه الشباب، وأجدر ما تنفق فيه الأعمار فلا تعجب إذا كان المسلمون حفظوه غاية الحفظ، وفهموه غاية الفهم، وتدبروه غاية التدبر، وهذا هو ما كان، وهذا هو ما شهد به تاريخ الأجيال، وارجع إلى كتاب التواريخ والرجال والطبقات تقف على ما يقنع العقل، ويثلج الصدر، ويطمئن القلب.

.العامل الثامن: إعجاز القرآن وسحر بيانه وعجائب أسلوبه وحلاوة كلامه:

وهذه خصائص للقرآن الكريم، وقد كانت من أعظم العوامل وأقوى الدوافع إلى حفظ القرآن الكريم.
والعرب كانوا أرباب الفصاحة، والبلاغة وفرسان البيان، فمن ثم كانت معجزة النبي العظمى القرآن الكريم، وكان العربي تستهويه الكلمة الفصيحة، ويكاد يخر ساجدا للكلام البليغ، ويملك ناصيته البيان المعجز، والأساليب العجيبة، ويجد في الكلام الفصيح البليغ حلاوة ليس بعدها حلاوة؛ لأن فيه إشباعا لغريزته، وإرضاء لفطرته، وتنمية لمواهبه.
وإليك ما ذكره ابن إسحاق في سيرته عن ثلاثة من فصحاء العرب وبلغائهم؛ روى عن الزهري قال: حدثت أن أبا جهل، وأبا سفيان، والأخنس بن شريق خرجوا ليلة ليسمعوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي بالليل في بيته، فأخذ كل منهم مجلسا، فيستمع منه، وكل لا يعلم بمكان صاحبه، فجمعهم الطريق، فتلاوموا!! وقال بعضهم لبعض: لا تعودوا فلو رآكم بعض سفهائكم لأوقعتم في نفسه شيئا، ثم انصرفوا.
حتى إذا كانت الليلة الثانية عاد كل رجل منهم إلى مجلسه، فباتوا يستمعون له حتى إذا طلع الفجر تفرقوا، فجمعهم الطريق، فقال بعضهم لبعض مثل ما قال أول مرة، ثم انصرفوا..
حتى إذا كانت الليلة الثالثة أخذ كل رجل منهم مجلسه، فباتوا يستمعون له، حتى إذا طلع الفجر تفرقوا، فجمعهم الطريق فقالوا: لا نبرح حتى نتعاهد أن لا نعود، فتعاهدوا على ذلك ثم تفرقوا..
فلما أصبح الأخنس بن شريق أخذه عصاه، ثم خرج حتى أتى أبا سفيان في بيته، فقال: أخبرني يا أبا حنظلة عن رأيك فيما سمعت من محمد، فقال: يا أبا ثعلبة، والله لقد سمعت أشياء أعرفها، وأعرف ما يراد بها، وسمعت أشياء ما عرفت معناها، ولا ما يراد بها.. فقال الأخنس: أنا- والذي حلفت به- كذلك.
ثم خرج من عنده حتى أتى أبا جهل فقال له: يا أبا الحكم فما رأيك فيما سمعت من محمد فقال: ماذا سمعت! تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف: أطعموا فأطعمنا وحملوا فحملنا، وأعطوا فأعطينا حتى إذا تحاذينا على الركب وكنا كفرسي رهان قالوا: منا نبي يأتيه الوحي من السماء؛ فمتى ندرك هذه! فو الله لا نؤمن به أبدا؛ ولا نصدقه.
وهو يدل على استلذاذ العرب لسماع القرآن، استجابة لفطرتهم العربية، وإذا كان تأثير القرآن في أهل الشرك فكيف يكون تأثيره في أهل الإيمان، وهذا هو الوليد بن المغيرة جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأ عليه القرآن، فكأنما رق له، فبلغ ذلك أبا جهل، فأتاه، فقال: يا عم إن قومك يريدون أن يجمعوا لك مالا. قال: لم قال: ليعطوكه، فإنك أتيت محمدا لتعرض ما قبله. قال: قد علمت قريش أني من أكثرها مالا!. قال: فقل في القرآن قولا يبلغ قومك أنك منكر له.
قال: وماذا أقول! فو الله ما منكم أحد أعلم بالأشعار مني، ولا أعلم برجزه ولا بقصيده مني، ولا بأشعار الجن، والله ما يشبه الذي يقول شيئا من هذا، والله إن لقوله لحلاوة، وإن عليه لطلاوة. وإنه لمثمر أعلاه، مغدق أسفله، وإنه ليعلو ويحطم ما تحته!!
فإذا كان هذا تأثير القرآن في مشرك عنيد حتى استشعر هذه الطلاوة وتلك الحلاوة، فكيف بمسلم عمر قلبه بالإيمان، وأشرقت نفسه بنور القرآن.
وفي الحديث الذي ذكرته آنفا: «لا يخلق على كثرة الرد». أي: لا يبلى ولا تسأمه النفوس مهما تكرر، وكلما كررته لا يزداد إلا حلاوة، وكلما أجلت فيه الفكر والنظر لا يزداد إلا طلاوة، ومن قرأ القرآن غضا طريا كما أنزل، وبخشوع، وتدبر استشعر هذه الحلاوة، فإنها تسري في لعابه ويجدها في لسانه.
وهذه الخاصية القرآنية لا تجدها عند قراءة أي كتاب آخر مهما كان، نعم قد يجد المسلم حلاوة، ولكنها دون هذه الحلاوة، حينما يقرأ كلام الرسول صلى الله عليه وسلم، ولاسيما في جوامع كلمه التي رويت بلفظها، ولم يدخلها الرواية بالمعنى.
فمن ثم كانت هذه الخصائص البيانية، والأسلوبية، والوجدانية من أكبر العوامل المساعدة على مداومة تلاوته، وإجادة حفظه والمحافظة على نصوصه.